رئيس المجلس الأعلى للفتوى والمظالم يلقي محاضرة قيمة حول التأصيل الشرعي لفقه الواقع في مجال الأسرة

في إطار مشاركته في فعاليات المؤتمر الثالث لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ، المنظم هذا العام في أبو ظبي يومي 15 و 16 من شهر دجمبر الجاري تحت عنوان:
” الأسرة في سياق فقه الواقع: هوية وطنية ومجتمع متماسك”، قدم الأستاذ الدكتور إسلمُ ولد سيد المصطف/ رئيس المجلس الأعلى للفتوى و المظالم محاضرة قيمة بعنوان:” فقه الواقع في مجال الأسرة: التأصيل الشرعي والنماذج التاريخية والعلمية”
وحرصا من المجلس على تعميم الفائدة للجميع نقدم لكم النص الكامل لهذه المحاضرة القيمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
مداخلة الأستاذ الدكتور إسلم سيد المصطف
رئيس المجلس الأعلى للفتوى والمظالم بموريتانيا
تحت عنوان: التأصيل الشرعي لفقه الواقع في مجال الأسرة
والنماذج التاريخية والعلمية.
أبو ظبي 2025/12/13
فقه الواقع في مجال الأسرة: التأصيل الشرعي والنماذج التاريخية والعلمية
لابد -بادئ بدء-من التفكيك الدقيق والتحليل العميق لمكونات العنوان ومفرداته الجوهرية ودلالاته اللغوية، وهي بترتيبها المنطقي كما يلي:
1- فقه الواقع
2- التأصيل الشرعي لفقه الواقع عموما
3- التأصيل الشرعي لفقه الواقع في مجال الأسرة
4- النماذج التاريخية والعلمية
-أولا: مفهوم فقه الواقع:
الفهم في الأصل اللغوي هو: العلم والادراك والمعرفة. والمفهوم تطلق على المعنى الذي يستقر في الذهن، عند سماع اللفظ أو رؤية الشيء، أو تفسير الفكرة.
والفقه: في اللغة، قيل هو مطلق الفهم، وقيل انه الفهم الدقيق خاصة، يدل لذلك قوله تعالى:﴿ قَالُواْ يَٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراٗ مِّمَّا تَقُولُ ﴾[سورة هود، الآية 91]، إذا حملنا كلامهم على ظاهره واعتبرنا أن قصدهم صحيح فمن الممكن على ذلك، أن لا يفهموا بعض محتويات عقيدة التوحيد وألا يستسيغوا بعض التعليمات التي جاءهم بها.
أما إذا اعتبرنا أنهم مكذبون، وأنهم معاندون، كان لكلمة الفقه مدلول آخر، ويدل لهذا المعنى-أيضا-قوله تعالى:﴿ وَإِن مِّن شَےْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمُۥٓۖ ﴾[جزء من الآية 44 من سورة الإسراء]، إذ من النادر أن يفهم الناس تسبيح كل المخلوقات ويدل لهذا المعنى-أيضا-قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: “من يرد الله به خيرا يفقه في الدين”، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لابن عباس -رضي الله عنه-الوارد في الترمذي: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل.”
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما يريد لابن عباس -رضي الله عنه-ما يكون فيه تميز ظاهر، لا ما يستوي فيه كل العقلاء، فإدراك وفهم الأشياء الواضحة إذًاً لا يسمى فقها.
أما الفقه في الاصطلاح الشرعي فإنه يدل على فهم الأحكام الشرعية خاصة، والواقع أن الدلالة الاصطلاحية لكلمة “الفقه” تأثرت بالرحلة العامة لتاريخ التشريع الإسلامي. ففي الوقت الذي كانت هذه الكلمة تطلق في بداية نشأة التشريع على الأحكام الشرعية عامة بما فيها العقائد والأخلاق العامة، أصبحت لا تدل إلا على الأحكام الشرعية العملية، بعد أن أضيفت إليها في التعريف كلمة (العملية) لتبعد عنها هذه الإضافة علم العقائد الذي أخذ بعد نضجه واستقلاله تسميات مختلفة. (كالتوحيد، وعلم العقائد، وعلم الكلام)، وكذلك استقل علم الأخلاق (الإحسان) فأصبح يعرف إما بالتصوف وإما بعلم الأخلاق.
أضف إلى ذلك أيضا ما شهدته الكلمة نفسها: “فقه” من تغيير في الدلالة خلال مسيرتها، حيث كانت تدل على كل الحقائق الشرعية العملية التي اشتملت عليها النصوص، بغض النظر عن نوع دلالتها عليها وكيفية استخراجها منها.
ثم اختير لها بعد ذلك أن يقتصر مدلولها على ما استخرج من النصوص بعملية الاستنباط والاجتهاد، حيث استبعدت ظواهر الآيات والأحاديث باعتبارها أحكاما شرعية قرآنية أو نبوية واضحة، لا يحتاج فهمها لعملية ذهنية ولا لعقلية استنتاجية، فقيل في تعريفها أنها «الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من الأدلة الشرعية بالنظر والاستدلال. ثم اختفى أخيراً في مرحلة الجمود الفكري شرط استخراجها بالنظر والاستدلال»، حيث أصبحت ظواهر النصوص الجلية تستوي في إطلاق كلمة “الفقه” عليها مع ما استخرج من النصوص بفرط الذهن والاجتهاد.
وكما يطلق اللفظ على الحقائق الشرعية هذه، بغض النظر عن وضوحها وخفائها وبذل الجهد في استخراجها، فإنه يطلق كذلك على العارف بها المتمرس عليها، بل وعلى الحائز على أهليتها.
وتدل النصوص الشرعية -بوجه ما من الدلالة-على أن كلمة: “الفقه” تدل على ما هو أكثر من مطلق الفهم. لاحظ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: “نَضَّرَ الله امْرُءأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع.”، أو كما في رواية أخرى: “فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.”
فهذه النضارة التي دعا بها صلى الله عليه وسلم إنما يحوزها من سمع مقالته (فوعاها). والوعي عملية عقلية أدق وأعمق من مطلق الفهم. يدل له قوله تعالى:
﴿ وَتَعِيَهَآ أُذْنٞ وَٰعِيَةٞۖ ﴾[جزء من الآية 12 من سورة الحاقة]، قال ابن عطية: “عبارة عن الرجل الفهم الفطن المنور القلب الذي يسمع القول فيتلقاه بفهم وتدبر.” [15/66]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ” فرب حامل فقه غير فقيه”: يدل على أن حيازة آليات الفقه، ووسائله الموضوعية كالنصوص والكتب ونحوها لا تكفي لجعل الشخص فقيها. إنما لابد -إذاَ-من توفر بعض المميزات الشخصية الذاتية، والمواهب الراسخة التي تُمَكِّنُ الإنسان من استخراج أو استنباط المعاني الخفية بعيداً جداً عن البلادة والغباوة.
ثبت في صحيح البخاري أن عدياً بن حاتم رضي الله عنه قال لما نزل قوله تعالى:
﴿ حَتَّيٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اُ۬لْخَيْطُ اُ۬لَابْيَضُ مِنَ اَ۬لْخَيْطِ اِ۬لَاسْوَدِ مِنَ اَ۬لْفَجْرِۖ ﴾[جزء من الآية 185 من سورة البقرة]، قال: عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يتبين لي، فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: “إن وسادك إذا لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك.”
وفي رواية أخرى للبخاري أنه قال له: “إنك لعريض القفا إن بصرت الخيطين.”، قال ابن حجر في الفتح [8/182]: “والعرب تقول: فلان عريض القفا إذا كان فيه غباوة وغفلة.”
يروى أن الإمام مالكا رحمه الله سئل عن تلميذيه: ابن القاسم، وابن وهب، فقال: “ابن وهب عالم، وابن القاسم فقيه.”
وقد اختصر شيخ مشائخنا سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي رحمة الله عليه، في ألفيته الأصولية تعريف الفقه فقال:
والفقه هو العلم بالأحكـــام للشرع والفعل نماها النامـي
أدلة التفصيل منها مكتسب والعلم بالصلاح فيما قد ذهب
ويُخْرِجُ التعريف السابق للفقه علم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يُخْرِجُ العلم بالأحكام العقلية والحسية واللغوية والوضعية، لأنها ليست علما بالأحكام الشرعية
وتشمل كلمة: “العلم” الواردة في حد الفقه “الظن” وهو يستعمل في اليقين كقوله تعالى:﴿ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ ﴾[سورة ص، الآية: 24]، وقوله تعالى:﴿ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اَ۬للَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ ﴾[التوبة، الآية 118]، ويستعمل في الشك كما في قوله تعالى:﴿ إِنْ يَّتَّبِعُونَ إِلَّا اَ۬لظَّنَّ وَإِنْ هُمُۥٓ إِلَّا يَخْرُصُونَۖ ﴾[الأنعام، 116]
والمراد بالظن في عرف الفقهاء: العلم الراجح في النظر مع احتمال الخطإ احتمالا مرجوحا.
أما بالنسبة لكلمة الواقع فإنها تدل من حيث الوضع اللغوي على الحصول والحدوث والثبوت، ومنه قوله تعالى:﴿ فَوَقَعَ اَ۬لْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَۖ ﴾[الأعراف: 116]، وقوله:﴿ وَإِذَا وَقَعَ اَ۬لْقَوْلُ عَلَيْهِمُۥٓ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةٗ مِّنَ اَ۬لَارْضِ تُكَلِّمُهُمُۥٓۖ ﴾[النمل: 83]
فالوجود المشخص-إذاً-بما يحمله من ظروف وملابسات، وما يشمله من حوادث من أي نوع كانت هو الواقع، بعيداً عن ما في الذهن والمخيلة وما يمكن أن يتصور، أو يتخيل مهما كانت مصداقية ذلك التصور أو التخيل أو التوقع.
وإضافة كلمة الفقه لهذا الواقع تعني أخذه بعين الاعتبار في أي وصف شرعي يمكن أن توصف به مشمولاته الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية. وذلك هو ما يسميه الفقهاء تنزيل الحكم.
وهذا التنزيل هو ثمرة الفقه الحقيقية وهو الأثر الجلي لعموم الشريعة وشمولها بل ولختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فالواقع إذا لابد من اعتباره في خلق الاحكام وتنزيلها، لأنه مشارك أصيل في إنشاء الأحكام لاستحالة رفعه، واستحالة تجريد الحوادث التي توصف بالأحكام الشرعية من أحواله وشروطه، مهما اشتد نفوره منها ومنافاته لظواهرها. ولا يعني ذلك مطلقا تعطيل النصوص ولا جلبها بقسوة وعنجهية لتلائم الواقع الهارب منها والمناقض أو المناهض لها. إنما اللازم هو التنظير الفني والعلمي الدقيق الذي يوائم بين النصوص الثابتة والوقائع المتحركة أو المتغيرة.
ويتصور عموم الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان -كما يقول الطاهر بن عاشور -رحمه الله-، بقابلية أصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا عسر ولا مشقة، وبتشكل مختلف أحوال العصور والأمم طبقا لأحكامها هي دون حرج ولا مشقة على غرار ما حصل لبعض أحوال العرب والفرس والبربر وغيرهم من الأمم.
ففقه الواقع إذاً كمركب إضافي يعني الفهم الدقيق الواعي للوقائع القائمة وما يكتنفها من أحوال وظروف ثم فهم النصوص الشرعية والقواعد الأصولية والفقهية والربط بينها ربطا علميا دقيقا حتى تستوعبه استيعابا كاملا، واصفة إياه بواحد من الأوصاف الشرعية الخمسة، وهذا هو ما يسمى بالتنزيل المناسب، يقول ابن القيم عليه رحمة الله : « ولا يتمكن المفتي والحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم أحدهما فهم الواقع والثاني فهم الواجب في الواقع ».ففقه الواقع إذا غير بديل عن فقه النصوص، ولا منفصل عنه بل إنه تطبيق ذكي حاذق لمدلولاته الشاملة، ومقاصده الغائية ومالاته المستقبلية. فالفقهان الشرعي والواقعي لا بد من جمعهما والتكامل بينهما باجتهاد علمي أصيل خالص حتى تسود الاحكام الشرعية كل الحوادث والاحوال.
التأصيل
والحديث عن تأصيل فقه الواقع في مجال الأسرة ينبغي في تصوري أن يمر ولو قليلا بتأصيل فقه الواقع عموما ثم بتأصيل فقه الأسرة، لينتهي العرض بما تيسر من النماذج التاريخية والعلمية.
التأصيل العام لفقه الواقع
نحن نعتقد أن منهجية التدرج التي سلكها التشريع الإسلامي في الجهاد وتحريم الخمر، ونظام المؤاخاة في المدينة المنورة والميراث، وسلوكه صلى الله عليه وسلم مع المنافقين في المدينة، ومراعاته عليه الصلاة والسلام للمؤلفة قلوبهم وإعطائهم من الزكاة، وتركه الكعبة على ماهي عليه، وقوله لعائشة رضي الله عنها: “لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة ولجعلت لها بابين بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه…
نحن نعتقد أن هذه الأمور كلها صريحة في تأصيل فقه الواقع، لأنها أحكام عالجت نوازل واقعية خاصة وافقت في معالجتها، واقع المجتمع، وظروفه وأحواله.
من ذلك قوله تعالى:﴿ وَلَا تَسُبُّواْ اُ۬لذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اِ۬للَّهِ فَيَسُبُّواْ اُ۬للَّهَ عَدْواَۢ بِغَيْرِ عِلْمٖۖ ﴾[الأنعام:108]، وقوله تعالى:﴿ اَ۬لَٰنَ خَفَّفَ اَ۬للَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفاٗۖ ﴾[الأنفال:66]، وقوله تعالى:﴿ وَأُوْلُواْ اُ۬لَارْحَامِ بَعْضُهُمُۥٓ أَوْل۪يٰ بِبَعْضٖ فِے كِتَٰبِ اِ۬للَّهِ مِنَ اَ۬لْمُومِنِينَ وَالْمُهَٰجِرِينَ ﴾[ألاحزاب:05].
كما أننا نعتقد أن كثيرا من أسباب النزول يصلح لأن يكون تأصيلا لفقه الواقع لأن أسباب النزول تبرز بجلاء تفاعل الوحي مع الواقع وترمز إلى تأثير الواقع في الحكم كما أن نزوله منجما على حسب الحوادث يظهر مطابقة الآيات المقتضي الحال ومناسبتها للمقام، وذلك هو عين معالجة الواقع.
ثالثا تأصيل فقه الواقع في المجال الأسري خاصة
معروف أن الأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع، وأنها المصدر الأول لزرع القيم والأخلاق، وأن ما تواجهه اليوم في العصر الحالي، من تحديات وتحولات، ومؤثرات شديدة، يحتاج كثيرا من التأمل العميق، والدراسات المتأنية، التي توشك أن تجمع بين النقيضين بين الثابت الحضاري والمتغير المعاصر. بين القيم الثابتة الراسخة، والواقع المعاصر المنفلت، بما فيه من تطور جامح، وطموح طائش.
مما يلزمنا في هذه المعالجة باستدعاء كل الموروث الثقافي والحضاري، لنتكئ عليه فيما نسعى له من محاولة المواءمة بين الممكن والمستحيل، بين الثابت والمتغير في مجال الأسرة، بين مفهوم المودة والرحمة عندنا ونزعة الحرية والفردية عند غيرنا.
ما نسعى إليه إذا هو تصور –بل-وخلق أسرة تستجيب لواقع العصر ومقتضياته مع التمسك بالثوابت الحضارية والمبادئ العقدية.
أسرة تتقبل – بارتياح – وانفتاح واقع إعادة تقسيم الأدوار داخل مكوناتها، أسرة تنسجم وتتقبل كذلك بأريحية واستسلام واقع الضرة الجديدة (آيفون) والخدن الذكي العزيز (الكومبيوتر). أسرة تتحمل بأعصاب باردة وصبر شديد الضغوط الاقتصادية والتكاليف المنتفخة المتزايدة، أسرة تتعايش مع مراجعة مختلف مفاهيم ومفردات الأسرة، كمفهوم الحضانة، واتساع دلالة النفقة، وتكاليف الصحة والسياحة، والسياسة الإنجابية والعلاقات الاجتماعية التي تفرضها الدراسة والأعمال التجارية، والمهمات الشرعية. أسرة ترضى بتقييد حرية الطرفين أو أحدهما لصالح الاستقرار وتربية الأجيال، بتضييق أسباب الطلاق واحتواء آثاره -إن كان لابد-إلى غير ذلك مما يشغل بال المؤتمرات والندوات وتعج به المحاكم وتمتلئ به الصحف.
• ولعل أوضح النماذج القرآنية قصة خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت، حيث اشتكت زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله، إن أوس بن الصامت أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، -قال القرطبي-فما برحت حتى نزل جبريل بالآية:﴿ قَدْ سَمِعَ اَ۬للَّهُ قَوْلَ اَ۬لتِے تُجَٰدِلُكَ فِے زَوْجِهَا وَتَشْتَكِےٓ إِلَي اَ۬للَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌۖ ﴾ (الآيات…).
وقيل إنها لما حكت عليه القصة قال لها عليه الصلاة والسلام: “حرمت عليه” فكررتها فقال لها: ” حرمت عليه” فقالت والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: اشكو إلى الله فاقتي، ووحدتي وفراق زوجي وابن عمي، وقد نفضت له بطني، فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية. – انظر القرطبي عند هذه الآية.
• ومن النماذج القرآنية الصارخة كذلك قصة هلال بن أمية رضي الله عنه الذي قذف زوجته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: البينة وإلا حد في ظهرك .. فقال يا رسول الله: إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة، فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك فنزلت:﴿ وَالذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَٰجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَآءُ اِ۪لَّآ أَنفُسُهُمْ﴾، فقرأها حتى بلغ:﴿ َمِنَ اَ۬لصَّٰدِقِينَ﴾.- القرطبي وغيره
• وكذلك قصة بنات سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه الذي استشهد يوم أحد فأخذ عم البنات المال كله فاشتكت أمهما له صلى الله عليه وسلم فقالت إنهما لا تنكحان إلا ولهما مال فنزلت آيات المواريث، فاستدعاه صلى الله عليه وسلم وقال له: “اعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك.”
• وكذلك وقعت نماذج كثيرة في عهد الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم من أشهرها حديث مسلم: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو امضيناه عليهم فأمضاه عليهم.
• تأديبا، وزجرا، ومن ذلك ما فعله رضي الله عنه في سواد العراق حيث امتنع من تقسيمه على المجاهدين وتركه وقفا عاما.
• وتقريره رضي الله عنه تأبيد الحرمة على من وطئ زوجته في العدة.
• وتحديده مدة غياب الزوج عن أهله بعد أن استشار ابنته أم المؤمنين رضي الله عنها.
• وتعليقه حد السرقة عام المجاعة وغير ذلك كثير رضي الله عنه، وللخلفاء الراشدين الآخرين شيء كثير من ذلك.
وكل ذلك كان استجابة لواقع ضاغط وإعمالا لقواعد مسلمة ومعروفة كدرء المفسدة وسد الذريعة وتغليب المصلحة الراجحة ونحوها.
وقد نظمت مفهوم فقه الواقع وتأصيله وأمثلته فقلت:

 

وواقع الفقه هو التعامل            مع الحوادث التي قد تحصل

جديدة الزمان والمكان            في الحال والعموم والأعيان

فهذه أحكامها تُنَزَّلُ               طبقـــاً لمـا رأى الهداة الأول

وفق النصوص والقواعد التي     تستوعب الجديد من كل أتى

وهو يحتاج لفهم النص             وفهم واقع بدون نقص

كنهيه جل عن الأصنام            ورفعه الحرج في الأحكام

وتركه البيت على أحواله          دون زيـــادة ودون هدمــه

وتركه النفاق في المدينة       ينفث من أهدافه المشينه

ومثله ما فعل الخطـــــاب        إبــــــان حكمـــه فلا يعـاب

كوقفه عقوبة الحد التي            استحقها السارق في المجاعة

وتركه السواد دون قسم            مستخدما في ذاك حسن الفهم

إمضــــاؤه لفظ الثلاث بعدما         تساهــل الناس فيهــــا فألزمـــا

تأبيده التحريم في حق الذي        وطئ في العدة حسـن المأخـذ

               والله ولي التوفيق.
زر الذهاب إلى الأعلى