صناعة الفتوى (ح:04)
بقلم عضو المجلس: إبراهيم محمد الأمين (الكلّيّ).
يقول سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله: “إنّما الفقه الرخصة من ثقة، أمّا التشديد فيحسنه كلُّ أحد” وهذا أصلٌ عظيم في صناعة الفتوى، أصل “التيسير والتخفيف على الناس، فالله تعالى يقول: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدّين من حرج} ويقول: {يريدُ الله بكم اليسر ولا يريدُ بكم العُسرَ} ويقول جلّ شأنه: {يريد الله أن يخفِّفَ عنكم وخُلِق الإنسان ضعيفا} ويقول تعالى: {ما يُريدُ الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريدُ ليطهِّركم وليتِمَّ نعمته عليكم لعلَّكم تشكرون} ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم: “إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ولن يُشادَّ الدّين أحدٌ إلّا غلبه” ويقول: “إنّما بُعِثتُ بحنيفيّة سمحةٍ”.
ومن هنا ينبغي للمُفتي أن يتأدَّبَ بهذا الأدب، وأن يكون في إفتائه وتعليمه ميسِّرا لا معسِّرا، ومبَشِّرا لا منَفِّرا، وأن يُحكِم قطعيّاتِ الدّين، ولا يقبَل المساس بالمحكمات، وفي الوقت نفسِه لا يُهمِلُ أن ينظُرَ في المخارج إن ضاقت السُّبُل، أو ترجَّحت المصالح، فيقدِّم أسباب التيسير ورفعِ الحَرَجِ بما يُسَهِّل على الناس دنياهم، ولا ينقُضُ محكمات دينِهم.
فالتّيسير هو سَننُ الأئمة من الصحابة وتابعيهم بإحسان، وقد قال بعضُ التابعين: “لقد أدركتُ أكثرَ من مائتينِ من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلَّم، فلم أرَ قوما أهدى منهم سيرةً ولا أقلَّ تشديدا”.
ولكنّ التيسير المطلوبَ والتخفيف المنشودَ ليس متروكا للتشهّي والهوى، بل هو محكومٌ بمدارك الأحكام من النصوص والمعاني، ومربوطٌ بالأدلَّة لا بأهواء النفوس، ذلك أنّ الهوى قد يُخيِّل لصاحبه المصلحةَ في شيءٍ هو منها خِلوٌ، فالمفتِي – إذا – يرجِع في تيسيره في الفتوى إلى النظر في أدلّة الشرع ثمّ تنزيلِها على الحوادث والنوازل بالوجه الصحيح لتحقيق مناطاتها.
وعن ضوابط هذا التيسير التي تحكمُه نتحدّثُ في الحلقة القادمة بحول الله.